الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
ولا يجوز أن يقال: إن في القرآن شعراً.{وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم} تقدّم تفسير مثل هذا.
والباء في ببكة ظرفية كقولك: زيد بالبصرة. ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه، وهو لا يصحّ.{مباركاً وهدىً للعالمين} أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده. وقال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله: {يُجْبى إليه ثمرات كل شيء} وقيل: بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها، لأنّ البركة لها معنيان: أحدهما: النمو، والآخر: الثبوت، ومنه البركة لثبوت الماء فيها. والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه، والبراكاء الثبوت في القتال، وتبارك الله ثبت ولم يزل. وقيل: بركته تضعيف الثواب فيه. روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة» وقال الفراء: سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب. وقال ابن جرير: بركته تطهيره من الذنوب.وقيل: بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش، فيجتمع فيه الظبي والكلب. وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد. وبولغ بكونه هدىً، أو هو على حذف مضاف أي: وذا هدى. قيل: ومعنى هدى أي قبلة. وقيل: رحمة. وقيل: صلاح. وقيل: بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى. وقال ابن عطية: يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء، أي من حيث دعى العالمون إليه، وانتصاب مباركاً على الحال. وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً، أي في هذه الحال للذي ببكة. وهذا التقدير ليس بجائز، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو: الخبر، لأنه معمول لأنَّ خبر لها، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: للذي ببكة وضع مباركاً. وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال.وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة، أي استقر ببكة في حال بركته. وهو وجه ظاهر الجواز، ولم يذكر الزمخشري غيره. وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً، والمعطوف على الحال حال. وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هدى، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.{فيه آيات بينات} أي علامات واضحات منها: مقام إبراهيم، والحجر الذي قام عليه، والحجر الأسود وهو: من حجارة الكعبة، وهو يمين الله في الأرض يشهد لمن مسه. والحطيم، وزمزم، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس، وأمر الفيل، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر، وجباية الأرزاق إليه، وهو {بواد غير ذي زرع} وحمايته من السيول. ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه. وذكر مكي وغيره: أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والطير يعاين يعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته انتهى. وأي عبد علا عليه عتق. وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب، ومضاعفة أجر المصلي، وغير ذلك من الآيات. وقوله: فيه آيات بينات، الضمير في فيه عائد على البيت، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت. لكنهم توسعوا في الظرفية، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران.ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه على سبيل المجاز. ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من: تحريم قطع شجره، ومنع الاصطياد فيه. والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم، لأنه آية باقية على مر الأعصار. وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار. ثم أراد الله إبقاء ذلك آية للعالمين ليَّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين، فذلك الاثر باق إلى اليوم. وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار. وقال في ذلك أبو طالب: فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول. وقيل: سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل: انزلْ. حتى اغسلَ رأسك، فأبى أن ينزل، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقي أثر قدميه فيه. وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله، فيكون المجرور في موضع الحال، والعامل فيها محذوف، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة. ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز، كنسبة الخبر إليها. إذا قلت: زيد في الدار، أو عندك. ولذلك قال بعض أصحابنا: وما يعزى للظرف من خبرية وعمل، فالأصح كونه لعامله. وكون فيه في موضع حال مقدّرة، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه، أو على ما أعربناه. ويجوز أو يكون جملة مستأنفة. أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات.{مقام إبراهيم} مقام: مفعل من القيام. وقرأ الجمهور: آيات بينات على الجمع. وقرأ أبيّ وعمر وابن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة «آية بينة» على التوحيد. فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام ابراهيم بدلاً، وهو بدل كل من كل، من قوله: آيات، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف. أي هنّ مقام إبراهيم. وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع، أو يخبر به عن الجمع؟ وأجيب بوجهين: أحدهما: أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوّة ابراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى: {إن ابراهيم كان أمة قانتاً} والثاني: اشتماله على آيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية.قال الزمخشري: ويجوز أن يراد فيه «آيات بينات مقام ابراهيم» وأمن من دخله، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة. وقال ابن عطية: والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات، وخصّا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم. فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله: أن مقام ابراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً، إنما جاء «ومن دخله كان آمناً» جملة من شرط وجزاء، أو مبتدأ أو خبر، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله: مقام ابراهيم، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً. بل لم يأت بعد قوله: {آيات بينات} سوى مفرد وهو: مقام ابراهيم فقال. فإن قلت: كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان وقوله: ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة: إما ابتدائية، وإما اشترطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى. ولأن قوله: {ومن دخله كان آمناً} دل على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح. لأن تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم، وفسر بهما الآيات. والجملة من قوله: ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه. فلا يجعل قوله: ومن دخله كان آمناً في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. قال الزمخشري: ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ونحوه في طي الذكر قول جرير: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة» انتهى كلامه. وفيه حذف معطوفين، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: آيات بينات. ورد عليه ذلك، لأن آيات نكرة، ومقام إبراهيم معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف البيان. وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين، فلا يلتفت إليه. وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي.وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين. وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم: عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله، أعربه البصريون بدلاً، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة، فينبغي أن لا يجوز. والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدها: أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم. أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها: أي من الآيات البينات مقام إبراهيم. ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير، ولإذكاره إياهم دين أبيهم إبراهيم. وأما على قراءة من قرأ: آية بينة بالتوحيد، فإعرابه بدل، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة، كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله} ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة. واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم. فقال الجمهور: هو الحجر المعروف. وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم، لأنه بناه، وقام في جميع أقطاره. وقال قوم: مكة كلها مقام إبراهيم. وقال قوم: الحرم كله. والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية.{ومن دخله كان آمناً}: الضمير في «ومن دخله» عائد على البيت: إذْ هو المحدث عنه، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره. ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر. وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت، وأمن من دخله من ذوي الجرائم. وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال، وأنواع الظلم، إلا في الحرم كقوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام {رب اجعل هذا بلداً آمناً} فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب: عطاء، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغيره. فمن زنى، أو سرق، أو قتل، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول: أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه. وقال ابن عباس: من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن. والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية، فلا يعرض أحد لقاتل وليه. إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه، ولا يكلموه، ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد. وقال بمثل هذا عطاء أيضاً، والشعبي، وعبيد بن عمير، والسدي، وابن جبير، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا: هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه.واختلف فقهاء الأمصار: إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وأحمد في رواية حنبل عنه: إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم. وقال مالك في رواية: لا يقتص منه فيه، لا بقتل ولا فيما دون النفس، ولا يخالط. قالوا: وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان. فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه. وقالوا: هذا خبر معناه الأمر. أي ومَن دخله فأمّنوه. وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله. وقال يحيى بن جعدة في آخرين: آمناً من النار، ولابد من قيد في. ومن دخله كان آمناً: أي ومن دخله حاجًّا، أو من دخله مخلصاً في دخوله. وقيل المعنى: ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وقال جعفر الصادق: منْ دخله ورقى على الصفا أمِن أمْن الأنبياء. وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات، وينبو اللفظ عنها، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} روى عكرمة: أنه لما نزلت: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} قالت اليهود: نحن على الإسلام فنزلت: {ولله على الناس حج البيت} الآية، قيل له: حجهم يا محمد. إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود: لا نحجه أبداً. ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج، إذ جاء ذلك بقوله: ولله، فيشعر بأن ذلك له تعالى، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين. قال الزمخشري: وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد. فمنها قوله: {ولله على الناس حج البيت} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه،. من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما: أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له. والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه، وهو حسن. وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء، والباقون بفتحها. وهما لغتان: الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو: ذكر ذكراً. وجعله الزجاج اسم العمل. ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر. وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً، وأنْ يكون خبر الحج. ولا يجوز أن يكون «ولله» حالاً، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي. وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت، والألف واللام فيه للعهد. إذ قد تقدّم {أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة} هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة. فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر: ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة. وذكروا أن شروطه: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والاستطاعة. وظاهر قوله: {ولله على الناس} وجوبه على العبد، وهو مخاطب به، وقال بذلك داود. وقال الجمهور: ليس مخاطباً به، لأنه غير مستطيع، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه. قالوا: وكذلك الصغير. فلو حج العبد في حال رقِّّه، والصبي قبل بلوغه، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام. وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال: يجب في كل خمسة أعوام مرة، والحديث الصحيح يرد عليه. والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من: مشي، وتكفف، وركوب بحر، وإيجاز نفسه للخدمة. الرجال والنساء في ذلك سواء، والمشروط مطلق الاستطاعة. وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير. ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور، ولا على التراخي، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة. والقولان عن الحنفية والمالكية. وقال أبو عمر بن عبد البر: ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها. وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض. وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون: أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم.وفي إعراب مَنْ خلاف، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل، فتكون مَن موصولة في موضع جر، وبدل بعض من كل لابد فيه من الضمير، فهو محذوف تقديره، من استطاع إليه سبيلاً منهم. وقال الكسائي وغيره: من شرطية، فتكون في موضع رفع بالابتداء. ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها، وحذف جواب الشرط، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج، أو فعلية ذلك.والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا. ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله: {ومن كفر} وقيل: مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم من استطاع إليه سبيلاً. وقال بعض البصريين: مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو: عجبت من شرب العسل زيد، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى. أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر. وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح، لأنّه يكون المعنى: إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع. ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم، والضمير في إليه يعود على البيت، وقيل: على الحج. وإليه متعلق باستطاع، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد. قال تعالى: {لا يستطيعون نصركم} وكل موصل إلى شيء، فهو سبيل إليه.وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا. وقال عمر، وابنه، وابن عباس، وعطاء، وابن جبير: هي حال الذي يجد زاداً وراحلة، وعلى هذا أكثر العلماء. وقال ابن الزبير والضحاك: إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه. قال الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك؛ فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة، أكان يتركه، بل كان ينطلق إليه؟ ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج. وقال الحسن: مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه. وقال عكرمة: استطاعةَ السبيل الصحة. ومذهب مالك: أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه، وعنه ذلك على قدر الطاقة. وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد. وقال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه. وقال الشافعي: الاستطاعة على وجهين بنفسه: أولاً: فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك. واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته. فروى عنه ابن وهب: لا بأس بذلك. وروي عنه ابن القاسم: لا أرى ذلك، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً. وكره مالك أن تحج النساء في البحر. واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك. ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم، واختلف إذا عدمته. فقال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق: المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم.قال أبو حنيفة: إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض؟ قال الشافعي: له أن يمنعها وعن مالك روايتان: المنع، وعدمه. والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة، أو رضاع، أو صهر، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون، فلا تخرج ولا تسافر معه. وقال مالك: تخرج مع جماعة نساء. وقال الشافعي: مع حرة ثقة مسلمة. وقال ابن سيرين: مع رجل ثقة من المسلمين. وقال الأوزاعي: مع قوم عدول، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل، ولا يقربها رجل.واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة. فقال سفيان الثوري: إذا كان المكس، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس. وقال عبد الوهاب: إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض. فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط، وعلى هذا جماعة أهل العلم، وعليه مضت الأعصار. وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج. فقال مالك: يسقط عن المعضوب فرض الحج، ولا يحج عنه في حال حياته. فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث، وكان تطوّعاً. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الحج ببذل الطاعة، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله. ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه.{ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} قال ابن عباس: بوجوب الحج، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر. وقال مثله: الضحاك، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وعمران القطان. وقال ابن عمر وغيره: ومن كفر بالله واليوم الآخر. وقال ابن زيد: ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت. وقال السدي وجماعة: ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج، فهذا كفر معصية، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود. ويصير على قول السدي لقوله: «من ترك الصلاة فقد كفر» «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». على أحد التأويلين. وقال الزمخشري: ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله: ومن كفر، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً» ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، انتهى كلامه، وهو من معنى كلام السدي.وقال سعيد بن المسيب: ومَن كفر بكون البيت قبله الحق، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} وكفروا بها وقالوا: لا نحج إليها أبداً.ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله: {عن العالمين} إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم. وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية: والقصد بالكلام: فإن الله غني عنهم، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه، حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا ربَّ سواه انتهى. وقال الزمخشري: ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: عن العالمين، ولم يقل عنه. وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة. ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فإن الله غني عن حج العالمين.{قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون}: قال الطبري: سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله: {وأولئك لهم عذاب عظيم} أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه: شاس بن قيس، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج، فقال: ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملأ بني قيلة، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر، ففعل، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم»؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً، هذا ملخصه وذكروه مطولاً. وقال الحسن: وقتادة، والسدي: نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم: إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة. وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكر. وقيل: المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته، واستدل بقوله: {وأنتم شهداء} انتهى هذا القول. وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، والمجابون عن شبههم في ذلك. ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به.ولما ذكر تعالى أنّ في البيت {آيات بينات} وأوجب حجه، ثم قال: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات الله، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة.والآيات: هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق. وقيل: آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل القرآن، ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {والله شهيد على ما تعملون} جملة حالية فيها تهديد ووعيد. أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر. وأتت صيغة «شهيد» لتدل على المبالغة بحسب المتعلق. لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان. فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها. وتقدّم الكلام على «لم» وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار. وقوله: «على ما تعملون» متعلق بقوله: شهيد. وما موصولة. وجوزوا أنْ تكون مصدرية، أي على عملكم.{قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال مَنْ آمن، أنكر عليهم تعالى ذلك، فجمعوا بين الضلال والإضلال «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها» وصدّ: لازم ومتعد. يقال: صد عن كذا، وصد غيره عن كذا. وقراءة الجمهور: يصدون ثلاثياً، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن. وقرأ الحسن: تصدُّون من أصدّ، عدى صدّ اللازم بالهمز، وهما لغتان.وقال ذو الرّمة: ومعنى صد هنا: صرف. وسبيل الله: هو دين الله، وطريق شرعه، وقد تقدّم أنها تذكر وتؤنث. ومن التأنيث قوله: قال الراغب: وقد جاء {يا أهل الكتاب} دون قل، وجاء هنا قل. فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد. ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير متساهلين أنْ يخاطبهم بنفسه، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة، وعلى الذّم أخرى.وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: {يكتبون الكتاب بأيديهم} وقد يراد به ما أنزل الله. وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم، كما لو قيل: يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه، انتهى ما لخص من كلامه.والهاء في يبغونها عائدة على السبيل. قال الزجاج والطبري: يطلبون لها اعوجاجاً. تقول العرب: ابغني كذا بوصل الألف، أي اطلبه. أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه. قال الزمخشري: (فإن قلت) كيف يبغونها عوجاً وهو محال؟ (قلت) فيه معنيان: أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى. وقيل: يبغون هنا من البغي وهو التعدي. أي يتعدّون عليها، أو فيها. ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في يبغون، أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى. وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به، والجملة من قوله: «يبغونها عوجاً» تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في يصدُّون أو من سبيل الله، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما.{وأنتم شهداء} أي بالعقل نحو: {وألقى السمع وهو شهيد} أي عارف بعقله، وتارة بالفعل. نحو قال: {فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} وتارة بإقامة ذلك، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه. وقال الزمخشري: وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ. أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم، ويستشهدون في عظام أمورهم، وهم الأحبار انتهى. قيل: وفي قوله: {وأنتم شهداء} دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لأنه تعالى سماهم شهداء، ولا يصدق هذا الإسم إلا على من يكون له شهادة. وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة. والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة. وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين} لمّا أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ «قل» ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم.وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية، لأنه لم تقع طاعتهم لهم. والإشارة ب يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس. وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل، أي أنْ يصدرَ منكم طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول. والردّ هنا التَّصييرُ أي يصيرونكم. والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج. ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له. وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية. وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله: وقيل: انتصب على الحال، والقول الأول أظهر.{وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين: وهما تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق. ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك. وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون، ولذلك نودوا بقوله: يا أيها الذين آمنوا. فليس نظيرُ قوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً} والرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. والخطاب قال الزجاج: لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه. وقيل: لجميع الأمة، لأن آثاره وسنته فيهم، وإنْ لم يشاهدوه. قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله. فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه، حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. وقيل: الخطاب للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور. وقرأ الجمهور تتلى بالتاء. وقرأ الحسن والأعمش: يتلى بالياء، لأجل الفصل، ولأن التأنيث غير حقيقي، ولأن الآيات هي القرآن. قال ابن عطية: وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه صلى الله عليه وسلم وهو في أمّته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره. وقال الزمخشري: وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرّق إليكم الكفر، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم؟.{ومن يعتصم بالله فقد هديَ إلى صراط مستقيم} قال ابن جريج: ومن يؤمن بالله. ويناسب هذا القول قوله: {وكيف تكفرون} وقيل: يستمسك بالقرآن.وقيل: يلتجئ إليه، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء إلى الله في دفع شرور الكفار. وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى، ودخلت قد للتوقع، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى.وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في {لم تكفرون} {لم تصدون} {وكيف تكفرون} والتكرار: في يا أهل الكتاب، وفي اسم الله في مواضع، وفيما يعملون، والطباق: في الإيمان والكفر، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية، وفي العوج والاستقامة، والتجوز: بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل: هو يهودي غير معين. وقيل: هو شاس بن قيس اليهودي. وإطلاق العموم والمراد الخصوص: في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج. والحذف في مواضع.
|